نجيب محفوظ: عيون القاهرة في مرآة الثقافة العبرية

منذ أن قدّم نجيب محفوظ روايته الشهيرة "أولاد حارتنا"، اهتز المشهد الثقافي العربي والعالمي أمام نص جريء مزج بين السرد الواقعي والإسقاطات الرمزية على تاريخ النبوات. ففي الحارة الصغيرة تجسّد أدهم كصورة لآدم، وجبل كرمز لموسى، ورفاعة كإسقاط على المسيح عيسى، وقاسم كتمثيل للنبي محمد، بينما ظل الجبلاوي رمزًا للأب الغائب، وتجسّد في شخصية عرفة سعي الإنسان وراء المعرفة. هذه الرموز التي أعادت صياغة التاريخ الديني في قالب حكائي مصري جعلت الرواية مثار جدل واسع، كما جعلتها محل اهتمام خاص لدى النقاد العبرانيين والإسرائيليين، الذين توقفوا طويلًا أمام شخصية جبل موسى وقرؤوا النص باعتباره إعادة إنتاج لجدل الأنبياء والسلطة والدين. ولعلّ ما زاد من أهميتها أنها الرواية التي ارتبط اسم محفوظ بها حين فاز بجائزة نوبل للآداب عام 1988.
غير أن محفوظ لم يتوقف عند الرموز الدينية وحدها؛ ففي الثلاثية حين يطلّ القارئ على عالم نجيب محفوظ، لا يمكن أن يتجاهل ملامح السيد أحمد عبد الجواد، الرجل الصارم في بيته والمتساهل في لذّاته خارجه، ولا صورة أمينة الزوجة المطيعة التي تحلم بعالم أبسط من قسوة الواقع، ولا أبناءهم الذين جسّدوا أحلام جيل كامل ما بين الطموح والانكسار. هذه الشخصيات التي صنعت مجد الثلاثية لم تبقَ مجرّد ملامح مصرية خالصة، بل تجاوزت حدود القاهرة القديمة لتصبح رموزا إنسانية تقرأها ثقافات أخرى بعيونها الخاصة.
لقد رأت الدراسات العبرية في هذه النماذج أكثر من حكايات عائلية؛ قرأت فيها مرآة للمجتمع المصري بكل تعقيداته: الأب المستبد الذي يخفي هشاشته، الأم المخلصة التي تحمل أعباء الأسرة في صمت، الأبناء الذين يتمردون على السلطة الأسرية والسياسية معًا. وهكذا وجد النقاد الإسرائيليون في عالم محفوظ مادة غنية لتأمل التحولات العربية، بل واعتبروا أن هذه الشخصيات تعبّر عن روح القاهرة التي أرادوا استكشافها من خلال الأدب.
الترجمة إلى العبرية
دخلت أعمال نجيب محفوظ إلى العبرية بشكل تدريجي، حيث تُرجمت في البداية بعض رواياته الشهيرة مثل اللص والكلاب وزقاق المدق، ثم لاحقا أولاد حارتنا، قبل أن تصل إلى الثلاثية (بين القصرين – قصر الشوق – السكرية)، التي مثلت ذروة مشروعه الروائي في نظر النقاد العبريين.
وقد جاء الاهتمام بالترجمة ليس فقط بدافع أدبي، وإنما أيضا باعتبار أدب محفوظ وثيقة حيّة يمكن من خلالها تتبع تحولات المجتمع المصري في القرن العشرين: من زمن الملكية إلى ثورة يوليو، ومن أحلام التحديث إلى خيبات الاستبداد.
محفوظ كمرآة للمجتمع المصري
القراءات العبرية لأعمال محفوظ لم تتوقف عند حدود التذوق الفني، بل سعت إلى استثمارها كـ"مرآة للذات العربية"، فقد نظر النقاد الإسرائيليون إلى محفوظ باعتباره شاهدا على التحولات العميقة في بنية المجتمع المصري، في الثلاثية، رأوا تصويرا دقيقًا لصعود الطبقة الوسطى وصراعها بين التقاليد والحداثة، أما في في اللص والكلاب، وجدوا انعكاسا لأزمة العدالة الاجتماعية وعلاقة الفرد بالسلطة.
و في أولاد حارتنا، رأوا نصا رمزيا يستدعي التاريخ الديني، ويفتح باب التأويل حول علاقة العرب بالموروث المقدس.
الجدل حول أولاد حارتنا
أخذت أولاد حارتنا مكانة خاصة في التلقي العبري، إذ قرأها النقاد الإسرائيليون باعتبارها نصا يستعير الرموز الدينية الكبرى، من موسى وعيسى ومحمد، ليعيد صياغتها في حارة مصرية صغيرة.
وقد رأوا في هذا التوظيف نوعا من النقد الداخلي للعلاقة بين الدين والسلطة في المجتمعات العربية، وأحيانا حمّلوه أكثر مما يحتمل، فاعتبر بعضهم أن محفوظ يقدم نقدا غير مباشر للموقف العربي من اليهود والديانات الأخرى، وهنا يتضح البعد الأيديولوجي في بعض القراءات العبرية التي سعت إلى توظيف الرواية سياسيا وثقافيا.
محفوظ كجسر ثقافي ومعرفي
بالنسبة لكثير من المستشرقين الإسرائيليين، لم يكن نجيب محفوظ مجرد كاتب بارز، بل كان بوابة لفهم العقلية العربية من الداخل. فقد تعاملوا مع أدبه كمصدر يوثق أحلام المصريين وآمالهم، مخاوفهم وهواجسهم، صراعهم مع السلطة، وتدينهم الشعبي، ومع ذلك، ظل هذا التلقي مشوبا بالبعد السياسي؛ فترجمة الأدب إلى العبرية ، كثيرا ما وُجهت بانتقادات في العالم العربي، خشية أن تُستثمر معرفيا وأمنيا في دراسة المجتمعات العربية.
أثر نوبل وتوسّع الاهتمام
شكّل فوز محفوظ بجائزة نوبل عام 1988 نقطة تحول؛ إذ ازداد الاهتمام العبري به، وتوالت الترجمات والدراسات، وصار محفوظ حاضرا في الجامعات الإسرائيلية كجزء من مقررات الأدب المقارن أو دراسات الشرق الأوسط، ومع ذلك، فإن هذا الحضور ظل في نظر كثير من الباحثين العرب "مشروطًا" بإطار أيديولوجي يجعل من أدب محفوظ أداة لفهم الآخر أكثر من كونه احتفاءً خالصًا بالإبداع الأدبي.
إن تناول الأدب العبري لنجيب محفوظ يعبّر عن ازدواجية واضحة، فمن ناحية هناك تقدير فني لمكانته كروائي عالمي استطاع أن يؤسس مدرسة خاصة في السرد العربي، ومن ناحية أخرى هناك استغلال معرفي وسياسي لأدبه باعتباره وثيقة اجتماعية تكشف عن بنية المجتمع العربي، وبذلك ظل محفوظ في التلقي العبري جسرا بين الأدب والسياسة، بين الاحتفاء الإبداعي والتأويل الأيديولوجي.
لمتابعة التفاصيل الكاملة حول نجيب محفوظ: عيون القاهرة في مرآة الثقافة العبرية، يمكن الرجوع إلى موقع مصر تايمز عبر رابط الخبر الموجود أسفل النص، وذلك حرصًا على وصول القارئ للمصدر الأصلي.