حياة افتهان المشهري: قصيدة أمل اغتالها الرصاص في تعز
في مدينة عانت من ويلات الحرب والدمار، برز صوت يشع بالأمل، صوت حلمت أن تسير على الأرض كقصيدة حب وسلام في زمن الحرب
.
كانت يدها الحانية تبني في مدينة انهكتها الخراب والفساد، وكانت روحها النابضة في كل مكان
،
ورمزا للمرأة التي لا تُكسر، وقصة أمل لم يُكتب لها سطر أخير
.
يقول شقيقها زيد المشهري لـ "الموقع بوست": "كانت روح تعز التي اغتالوها، فهي السيدة التي حملت على عاتقها هم المدينة بأكملها، مديرة صندوق النظافة والتحسين، التي لم تنظف الشوارع فحسب، بل حاولت أن تكنس غبار الحرب عن وجه مدينتها المتعب
."
ويضيف: "خير دليل على دموعها وتفانيها وإخلاصها أثناء فتح طريق جولة القصر وشقه في فترة زمنية قصيرة، لم تتجاوز أصابع اليد
."
من الطفولة إلى الحلم
تتوارى تفاصيل طفولتها خلف غيوم الفقد، نشأت في أسرة تقدس العلم وخدمة الناس
.
يروي شقيقها المشاري:"نرى طفولتها في عينها، وذلك الإصرار الذي ولد معها، والحلم في قلبها الصغير بأن ترى مدينتها أجمل وأنقى، وطفولتها كانت وعدًا بمستقبل مشرق، وعدًا لم يمهله القدر أن يكتمل
."
في أرقى مدرسة، خلقت لتكون قائمة شامخة، رقيقة وحنونة، ومرشدة كشفية تضيء الطريق للآخرين، لم تكن تقيد أحدًا بل تمنحه الثقة بنفسه
.
يضيف شقيقها: "كان حلمها أكبر من منصب، وأسمى من لقب، حلمت بوطن يتعافى وبسلام يرفرف فوق مدينتها. حلمت أن تثبت للعالم أن المرأة قادرة على القيادة وإحداث الفارق في أحلك الظروف
.
حلمت بتحويل رسالة الماجستير التي نالتها بامتياز عن حوكمة صندوق النظافة إلى واقع ملموس لكل إنسان في تعز، وحلمت بمستقبل نظيف من الفساد والحرب، لكن يد الغدر كانت أسرع، وتم اغتيال حلمها بـ 30 رصاصة غادرة، حسب تعبير شقيقها
.
كانت في الخامسة والأربعين من عمرها، لا زالت في ريعان شبابها، وحلمها قصير في حساب الزمن، لكنه كان دهراً من العطاء والتحدي والإلهام، ورحلت وهي في قمة عطائها وإصرارها، كالطود الذي يُقطف قبل أوانه
.
افتهان أما وزوجة، لها ابنة اسمها هبة، وابن اسمه قصي، وأسرتها تؤمن بالعلم وخدمة المجتمع، وهذا يخبرنا كل شيء، يقول شقيقها
:
"
كانت ابنة تلك المبادئ، انعكاساً لبيت يرى في العطاء غاية وشرفًا في خدمة الناس
".
علاقتها بأسرتها
كانت جذورها التي منحتها القوة والتوجيه لمواجهة العواصف، والمنبع الذي اشتقت منه إنسانيتها
.
"
غدت على نهج والدها، المناضل والدبلوماسي محمد أحمد المشهري، الذي كافح من أجل الجمهورية والوحدة والدولة والمواطنة، وكانت ابنته انعكاس هذا النهج، طموح وشغوفة بالتميز" حد تعبير شقيقها
، بل
كانت سندًا وأختًا تحمل هموم الجميع بابتسامة صابرة، يقول شقيقها "كانت لنا الفخر الذي يتحدثون عنه، والنور الذي يضيء دربنا، واليوم علاقتها بنا فراغ لا يملأه شيء، وجرح غائر في قلوبنا لم يندمل
".
دراستها ومسيرتها العلمية
لم تكتفِ بالعمل، بل واصلت السعي نحو النور والمعرفة، درست إدارة الأعمال، وتوجت مسيرتها العلمية بالحصول على درجة الماجستير، بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف، ولم تكن شهادة تعلق على جدار، بل كانت سلاحها لمحاربة التخلف والفساد
.
درست في حضن مدينتها التي أحبتها، في جامعة تعز، وكانت ابنة هذه الجامعة التي عملت في إدارتها لسنوات، وكانت آخر مناصبها القيادية أمين عام مكتب الجامعة، أسسته في ظروف الحرب والحصار إيمانًا بأهمية العلم والمعرفة والبحث للطالب الجامعي
.
كانت مبادراتها توفير وسائل نقل الطلاب والطالبات، تخفيف الرسوم، وتوفير مساكن للطالبات، قبل أن تنتقل لخدمة المدينة كلها، حاملة علمًا ونورًا لتضيء بهما شوارع تعز المظلمة
.
رسالتها للماجستير كانت بعنوان: "استراتيجية مقترحة لتطوير أداء صندوق النظافة والتحسين بتعز في ضوء مبادئ الحوكمة" وتحولت أفكارها إلى واقع عملي، مما جعلها خطرًا على منظومة الفساد
.
بقاؤها في تعز رغم الظروف الصعبة
كانت من طينة الأبطال الذين لا يهربون، وبقاؤها رسالة بحد ذاته، صمودًا وإيمانًا بأن النور سينتصر على الظلام، حتى لو كان الثمن حياتها
.
يروي المشهري "كانت ببساطة فارسة في زمن انعدمت فيه الفروسية، وأخلاقها محاربة، لا تعرف المستحيل وتكره لغة العجز. كانت تعشق مدينتها، جبالها، ومطرها. كانت تستعيد أنفاسها وتجدد روحها حين تذهب إلى جبل صبر أو الضباب، تهيم بهذه المدينة وتعشقها عشقًا أبديًا
."
تميزت بالصبر والحنان والإحساس العميق بالمسؤولية، وبساطة وتواضع سماتها، ورحيلها لم يكن خسارة أسرها وحدها، بل خسارة وطن بأكمله، وأسرتها اليوم تطالب بالعدالة، ليس انتقامًا، بل وفاءً لروحها الطاهرة ومنعًا لتكرار المأساة
.
بداية المسيرة الأكاديمية
تم تعيين إفتهان المشهري مطلع عام 2003 في جامعة تعز، ومنذ اليوم الأول أظهرت التزامًا وانضباطًا لافتين
.
يتحدث كريم الحاج لـ "الموقع بوست" قائلا: "أظهرت منذ اليوم الأول التزامًا مهنياً وانضباطاً شديداً انعكس في سرعة إنجازها للمهام المكلفة بها، وأسهمت في تطوير صندوق التكافل الاجتماعي الطلابي في نيابة رئاسة الجامعة لشؤون الطلبة، ثم تم تعيينها مديرة عامة مساعد للإدارة العامة للخدمات الطلابية
".
ساهمت المشهري في خلق بيئة عمل أكثر تنظيمًا وفعالية، من خلال تبسيط الإجراءات الإدارية وتقليل التعقيدات الروتينية المتعلقة بالخدمات الطلابية، كما عززت قنوات التواصل بين الطلاب والإدارة، وجعلت الخدمات أكثر شفافية وسلاسة، ونجحت في إقامة شراكات استراتيجية مع جهات مانحة لدعم صندوق التكافل الاجتماعي الطلابي
.
من أبرز إنجازاتها إنشاء وحدة طباعة الملازم الجامعية المجانية لدعم الطالبات، بهدف تسهيل متابعتهن الأكاديمية، وحل مشكلاتهن بشكل سريع، ما ساهم في رفع كفاءة العمل الأكاديمي والخدمي في الجامعة
.
يقول كريم الحاج: "كانت إفتهان مثالاً للروح الطيبة، والعمل بروح الفريق، فقد عُرفت بتعاونها مع زملائها، وتقديم يد العون في أي مهمة تحتاج إلى دعم، أما مع الطلاب فكانت قريبة منهم، حريصة على الاستماع لمشاكلهم ومساعدتهم على تجاوزها، مما ترك أثراً عميقاً في تعزيز ثقافة العمل الجماعي وخدمة الطالب
."
واجهت إفتهان تحديات كبيرة، أبرزها ضعف الإمكانيات المادية والتقنية، إضافة إلى ضغط المهام الإدارية وتعددها، لكنها تعاملت مع هذه الصعوبات بالصبر والإبداع، فابتكرت حلولًا عملية مثل إعادة توزيع المهام وتبسيط الإجراءات بما يتناسب مع الواقع، مما ساعدها على تحقيق أهدافها المهنية بكفاءة عالية
.
ترقية إدارة الصندوق وإنجازاتها
عام 2023، تولت إدارة صندوق النظافة والتحسين في تعز، وهي مؤسسة كانت مشلولة بالديون والفوضى، لكن افتهان أعادتها للحياة بخطط إدارية وتنظيمية صارمة
.
يقول مكين العوجري مدير إعلام الصندوق في حديثه لـ"الموقع بوست": "عندما استلمت افتهان الصندوق، ركزت على النظام المالي، وهيكلت الجهاز الإداري، وتعاقدت مع شباب جدد، حتى صار الصندوق مؤسسة فاعلة
."
يواصل حديثه قائلا: واجهت التحريض من بعض الأطراف، لكنها كسبت ثقة العمال الذين رأوا فيها قدوة وأمًا لهم
، و
ثبتت أكثر من 600 عامل بالأجر اليومي، ورفعت إيرادات الصندوق من 70 مليون إلى أكثر من 190 مليون شهريًا
.
يشير مكين العوجري أن من أبرز إنجازاتها إدخال نظام محاسبي إلكتروني، وشراء ضاغطات وقاطرات جديدة، والحصول على موافقات لمصنع تدوير النفايات، كما عملت على تنظيف شوارع رئيسية وفتح المنافذ المغلقة بالأتربة والمخلفات
."
كانت ترى النظافة رسالة حضارية وكرامة إنسانية، وربطتها بحملات تثقيفية واسعة
، و
واجهت ديونًا ثقيلة، وحملات إعلامية، ونقص وعي مجتمعي، لكنها كانت صبورة ومبتكرة، "وجدت الصندوق مثقلاً بديون تفوق 45 مليون ريال، وبموظفين بلا مهام محددة، لكنها بحزمها تجاوزت العقبات وأعادت ترتيب المؤسسة" حد وصف العوجري
، الذي أضاف:
"ورغم ذلك، بقيت مهددة بسبب مصالح لوبيات الفساد التي لم تقبل نجاحها
".
تعاملها الإنساني
لم تكن مديرة فقط، بل أماً وأختًا لكل من حولها، وتعاملت مع العمال بإنسانية فريدة
، وهو ما جاء في حديث
جميلة عبدالغالب، وهي عاملة في الصندوق:"كانت تعاملنا كأم حقيقية، تعطينا مصروفاً للطعام، وتشاركنا في أفراحنا وأحزاننا، حتى في العزاء، كانت تتكفل بكل شيء
."
وفي السياق ذاته، يضيف مهند ماهر، أحد عمال النظافة: "كانت تصرف لنا الرواتب بنفسها، وتشتري أدوات عملنا، وكانت تعاملنا كأبنائها، وبعد استشهادها تم إقصاؤنا من الراتب، وطالب بحقها في القصاص من منفذي جريمة اغتيالها، بالإضافة إلى استرداد حقوقنا المتأخرة
."
رحلت افتهان في الخامسة والأربعين، لكن قصتها تحولت إلى رمز للأمل والتحدي، واغتيالها لم يكن نهاية الحلم، بل بداية صرخة أكبر بأن الفساد لن يكون قدرًا، وأن امرأة واحدة يمكنها أن تترك أثرًا لا يمحى في ذاكرة وطن.
لمتابعة التفاصيل الكاملة حول حياة افتهان المشهري: قصيدة أمل اغتالها الرصاص في تعز، يمكن الرجوع إلى موقع الموقع بوست عبر رابط الخبر الموجود أسفل النص، وذلك حرصًا على وصول القارئ للمصدر الأصلي.